أحدثت مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.09.200 الصادر بتاريخ 8 ربيع الأول 1431هـ/23 فبراير 2010م في إطار مواصلة الجهود الإصلاحية المرتبطة بالشأن الديني، ويتوخى منها أن تعمل على تحسين الأوضاع الاجتماعية للقيمين الدينيين وتنميتها وتطويرها بكيفية دائمة ومتجددة، باعتبارهم النواة الأساس لأي إصلاح يراد تحقيقه في هذا الشأن.
وقد بدا ذلك واضحا في الحرص المولوي الشريف على تقوية أوجه العناية بهذه الشريحة الهامة من المجتمع، بموجب كون أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله الراعي الأول لشؤونهم، والكافل لجميع قضاياهم، والضامن لحقوقهم، وملاذهم في كل ما يهمهم ماديا ومعنويا.
-المؤسسة حديثة النشأة ولم تنطلق من أي تجربة سابقة، مما يستوجب ضرورة التدرج بها إلى المستوى المرغوب عبر مراحل تأسيسية عميقة.
-العناية بالقيمين الدينيين حاجة آنية وضرورية للحفاظ على تماسك المجتمع وضمان سلامته وحصانته.
-وظائف القيمين الدينيين ومهامهم تكتسي أهمية بالغة لدى كل مكونات المجتمع، وتتميز بقدر كبير من التعظيم والتوقير، وهم بهذا الاعتبار لهم مكانة خاصة في قلوب الناس.
-القيمون الدينيون هم أقدم فئة تولى المجتمع رعايتها والإحسان إليها ضمن ما اصطلح عليه بــ "الشــرط" أو "المشارطة"، وهو عبارة عن عقد شفهي تحدد بنوده من قبل القيم الديني والجماعة التي تريد توظيفه، ويعمل الطرفان معا وفق موجباته ومقتضياته، وتتمثل أساسا في كون الجماعة تلتزم بتوفير كل متطلبات العيش الكريم للقيم الديني مقابل التزامه بتأطير شؤونهم الدينية والروحية والأخلاقية والتعليمية.
-المؤسسة - فيما تعتزم القيام به من أعمال- كأنها مقبلة على تطوير هذا الشكل التعاقدي وإعادة صياغته في قالب جديد يواكب الواقع المعاصر ومستجداته دون إخلال بالقواعد التقليدية الأصيلة.
جاءت مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين في سياق عام تتجلى أهم سماته في:
- الإرادة العامة للدولة -ممثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- في التوجه نحو إرساء منظومة جديدة لتدبير الأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين تتوخى حفزهم وإشراكهم في إصلاح المجتمع.
- الإقرار بوجود خصاص كبير على المستوى الاجتماعي تعاني منه فئة القيمين الدينيين وأسرهم.
- تثمين الدور التاريخي والمحوري للقيمين الدينيين في الحفاظ على الأمن الروحي للمواطنين وترسيخ الوحدة المذهبية للبلاد.
إن مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين ستعمل وسط محيط آخذ في الاتجاه نحو خلق المزيد من الفضاءات والمؤسسات الاجتماعية الشبيهة بها، تتوجه بخدماتها نحو عموم المنخرطين فيها دون استثناء أو تمييز، ووفق مناهج وأساليب حديثة تتيح إمكانية التوفر على أعلى الضمانات الكفيلة بإيجاد أجواء وظروف للعمل مطبوعة بطابع الوضوح والمصداقية والدقة في الإنجاز.
وهذا يستوجب منها أن تكون لها الريادة في هذا المجال، لأنها تنتمي إلى حقل له خصوصيته وميزته الدينية والروحية، وتستهدف فئةً الأصل أنها تحظى بكثير من الاحترام والتقدير من لدن أفراد المجتمع، كما أنه ينتظر من هذه الفئة أن تكون هي المنبع الأول لكل عمل اجتماعي نافع يستفيد منه الأفراد والجماعات.
يتأسس عمل مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين على أربعة دعائم كبرى هي
- دعامة القيم الإسلامية المتينة.
- دعامة الإيمان بمنزلة عمل القيمين الدينيين في الإسلام ودورهم في خدمة المجتمع.
- دعامة الموروث التاريخي.
- دعامة الضرورة الواقعية.
أولا: دعامة القيم الإسلامية المتينة
تتجسد هذه الدعامة في معاني التواد والتراحم والتعاطف والتعاون على البر والتقوى، التي يجب أن تكون أواصرها قوية بين أفراد المجتمع المسلم من جهة، وبين الإمام الأعظم للأمة ورعيته من جهة أخرى، وخاصة الفئة التي تمثله أو تنوب عنه في تدبير الشؤون الدينية للمواطنين، ورغم أن هذه المعاني قائمة وموجودة عبر التاريخ، لكنها تضاءلت في الأزمنة المتأخرة ولم يسبق لها أن ارتقت إلى المستوى المؤسسي الذي يتميز بالتنظيم المحكم والفعالية والاستمرار والتنوع.
وتأكيدا لهذه الدعامة؛ جاء في افتتاحية الظهير الشريف الخاص بإحداث المؤسسة قول أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله:
"عملا بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء التي تحث في مصدريها الأساسين القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة على التعاون والتواد والتعاطف والتكافل الاجتماعي باعتبارها مطلبا شرعيا وحاجة إنسانية تعتبر تلبيتها واجبا، وسيرا على سنن أسلافنا المنعمين الذين أبدعوا صورا رائعة من التعاون والتكافل الاجتماعي تدل على ترسيخ قيم الإسلام السمحة وتعاليمه السامية في هذه الأمة عبر العصور... الخ".
إن هذه الدعامة كانت – ولا زالت - هي المحفز الأساس لكل المغاربة في المدن والقرى على الاهتمام ببيوت الله وبالقائمين على شؤونها، ينفقون عليها من حر أموالهم ابتغاء مرضاة الله وسعيا وراء ثوابه الذي يأمله كل مؤمن، يتقدمهم في ذلك السلاطين والملوك والأمراء، ولا تزال السلسلة متصلة الحلقات إلى اليوم، ومع خروج هذه المؤسسة المباركة إلى حيز الوجود في هذا العهد الميمون، سيكون المغرب قد حقق سبقا لا نظير له في كل بلدان العالم الإسلامي.
ثانيا: دعامة الإيمان بمنزلة عمل القيمين الدينيين في الإسلام ودورهم في خدمة المجتمع
يعتبر عمل القيم الديني في الإسلام أحد أعظم الأعمال التي جاءت نصوص الوحيين ببيان أهميتها وفضلها ومكانتها، مبرزة آثارها ونتائجها الدنيوية والأخروية، ولو لم تكن لهذا العمل من أهمية سوى أنه مرتبط أساسا بشعيرة الصلاة لكان ذلك كافيا، إذ أن هذه الشعيرة العظيمة هي أعظم ما في الدين كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" ] جزء من حديث رواه أحمد والترمذي حديث حسن صحيح[، وقال :"وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" ]حديث رواه الطبراني في الأوسطو الضياء المقدسي في المختارة عن أنس بن مالك رضي الله عنه[، لأنها هي الدين من حيث معناه العام الذي هو الخضوع لله الواحد القهار رغبا ورهبا، وإن عبادة فرضت في السماء من غير واسطة الملاك لحرية بأن تكون في صدارة الأعمال التي يهتم بها المسلمون أفرادا وجماعات.
والقيمون الدينيون بما تقلدوه من وظائف وخطط دينية، من أذان وإمامة وخطابة أو وعظ وإرشاد، يحملون رسالة عظيمة ومسؤولية جسيمة لا تقل جسامة عن أي مسؤولية أخرى في أي قطاع من القطاعات المهنية المختلفة، إن لم نقل تفوقها وتتجاوزها، وحجم ما ينتظره منهم المجتمع يكبر ويتسع بسرعة زمنية قياسية تماما كالسرعة التي يتميز بها هذا العصر، مما يوجب على كل القيمين الدينيين أن يسايروا هذه التطورات ويتفاعلوا معها .
ثالثا: دعامة الموروث التاريخي
إن الأعمال والمشاريع التي ستقبل المؤسسة على القيام بها لا تعدو أن تكون - في عمقها وجوهرها - عبارة عن عملية إعادة البناء والتجديد لما كان عليه الأمر في سالف العهود والأزمان، وهو ما يفيده مصطلح "النهوض" الوارد في تسمية المؤسسة، إذ يفهم منه الدلالة على معاني البعث والتقوية لشيء كان في الأصل على هيئة معينة ثم فقدها، والنهوض به ما هو إلا محاولة للعودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى، إذ لم يخل عصر من عصور المغرب المسلم من وجود نماذج راقية في العناية ببيوت الله وبالقيمين عليها من الأئمة والمؤذنين والخطباء والمنظفين، وحتى الوقَّادين والحزابين وسراد البخاري، ومن يقرأ حديث الإنصات يوم الجمعة، ومن يسلم العصا للخطيب يوم الجمعة، ومن يتكلف بتذكير المصلين بقوله: "عَدِّلوا الصفوف رحمكم الله"... فكل هؤلاء خصص لهم المجتمع أموالا وقفية وفيرة تغطي كل حاجياتهم المادية، ويذكر الأستاذ محمد بن عبد العزيز بن عبد الله في كتابه "الوقف في الفكر الإسلامي" أن (كثيرا من الوقفيات السخية تعطينا نظرة عن الرواتب التي كانت تدفع للموظفين الدينيين وتقدم في سخاء ... بل إننا نقرأ في كثير من الوقفيات أجورا عالية مجزية تكفل حياة رغدة راضية للقائمين بتلك الوظائف السامية، وتؤمن حياتهم في جو من الطمأنينة والاستقرار...).
ونجد في المعيار المعرب للونشريسي فتوى تحث على الإحسان إلى الأئمة أهل القرآن وإكرامهم وألا يعاملوا معاملة الأجراء على الأعمال، إذ حملة القرآن يحتاج إلى إكرامهم والإحسان إليهم، وليس من مكارم الأخلاق وفعل ذوي المروءة مشاحاة أهل القرآن وتنزيلهم منزلة الأجراء على الأعمال.
وفي المعيار أيضا، عن ابن عبد الغفور أن القومة – القيمين الدينيين - يفرض لهم من فوائد الجامع لأن ذلك مما يقف عليه الجامع ولا يستغني عنه، فدخل في قصد المحبس بالتضمن.
إنه بفضل تلك الأموال الوقفية، وبفضل ما كان يحظى به القيم الديني من الإكرام والإحسان من أهل الخير والإحسان؛ انتعش المجال الديني في المغرب، وكثرت بيوت الله تعالى في هذه الأرض الطيبة، وتحسنت ظروفها وظروف القيمين عليها.
رابعا: دعامة الضرورة الواقعية
الأصل أن القيم الديني عبر التاريخ – وإلى الآن- له منزلة رفيعة لدى كل فئات المجتمع، لكونه يمثل دور المصلح لما أفسدوه، والمرشد الذي يدل على صراط الله المستقيم، والقاضي الذي يلجأ إليه عند الخصومات، والمربي الذي يقتدى به...
لكن وجب ألا نغفل تلك النظرة السلبية التي أخذت في الذيوع والانتشار، والتي تصنف القيمين الدينيين ضمن الفئات التي تشكل مادة لأنواع من النكت التي تسخر بهم وتمس بعزتهم وكرامتهم، وتصورهم على أنهم قوم ليس لهم من هَمّ إلا الحضور في الولائم والمناسبات الاجتماعية، والتطلع إلى ما يجود به بعض الناس من أعطيات وإكراميات...
ولعل السبب الحقيقي في ذلك؛ يرجع إلى الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي يعيشها القيمون الدينيون جراء ما يتقاضونه من أجور هزيلة لا تغطي معظم تكاليف الحياة، وتعرضهم لمواقف محرجة لا تتلاءم مع ما يحملونه من قيم ومبادئ.
إن تغيير هذه النظرة السلبية مسؤولية يشترك فيها الجميع، بما في ذلك القيمون الدينيون أنفسهم، الذين ينبغي عليهم أن يجتهدوا في التخلي عن بعض ما ألفوه من عادات وتقاليد بعيدة عن مكانتهم السامية.
إذا كانت نظرة المجتمع إلى القيم الديني بالصورة السلبية السابق ذكرها؛ فإن حجم انتظاراته منه في تناقض تام مع هذه الصورة، ويتسع بسرعة زمنية قياسية تماما كالسرعة التي يتميز بها هذا العصر ويعيش أفراده على إيقاع التحولات الكبرى:
-إن المجتمع ينتظر من القيم الديني أن يكون في صدارة كل من يسهم في إنجاح مشروعات مجتمعية تحقق النهوض الاجتماعي والإقلاع الاقتصادي ومحاربة الجريمة وتخليق الحياة العامة، وما شابه ذلك مما يعتبر الاشتغال به هدفا مشتركا لكل مؤسسات المجتمع ومكوناته.
-وأن يكون في صدارة من يسعى إلى حل المعضلات الحياتية التي تواجه الناس، وخاصة جموع الشباب التي تعاني من ضغوط العصر وقيمه المادية، وأن يعمل على تمتين العلاقات الاجتماعية وحفظها من كل يهدد وجودها واستمرارها.
-والقيم الديني بصورة عامة منتظر منه أن يكون في طليعة من يدعو إلى الحق والخير والعدل واحترام حقوق الإنسان... وغير ذلك مما يدخل ضمن أدواره ولا يخرج عن اهتماماته.
إن كل هذا لا يمكن أن يحققه القيم الديني في ظل وضع معيشي غير مشجع، ولا يتوفر على أدنى مقومات التحفيز.
أن تكون مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين رائدة في العمل الاجتماعي ومتميزة في أدائها وجودة خدماتها وطبيعة أنشطتها الموجهة لفائدة القيمين الدينيين، وشامة بين مثيلاتها من المؤسسات.
السعي إلى النهوض بالأوضاع الاجتماعية والإنسانية للقيمين الدينيين وتحسينها بما يعود بالخير والنفع عليهم ومن خلالهم على كل فئات المجتمع، وذلك عبر تنمية وإشاعة روح التضامن والتكافل والتآزر والعمل على تكريس هذه المبادئ مع الالتزام بأرقى مستويات الفعالية والجودة والتميز.
تحقيق كفاية القيم الديني وإعادة بناء كرامته وإحياء دوره الطلائعي في خدمة بيوت الله وفي إصلاح المجتمع.